مقدمة: أنزل الله القرآن الكريم ليكون كتاب هداية, وليخرج الناس من الظلمات إلى النور, وأراد الله تعالى أن يكون بلسان عربي.
قال تعالى:﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 3], ولم يقتصر الأمر على كونه بلسان عربي, بل هو في قمة الفصاحة والبيان, قال تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾[الشعراء: 195].
وقد تحدى الله تعالى العرب الفصحاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي نزل بلغتهم, قال تعالى:
﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[ البقرة: 23-24], وعجز العرب -وغير العرب- أن يأتوا بمثله, وما هذا إلا لأن القرآن الكريم هو المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا فإن القران الكريم اشتمل على أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة, وسنحاول أن نعرض في هذا البحث أحد هذه الموضوعات البلاغية, ونوضح من خلاله روعة البيان القرآني, وتنوع المعاني للموضوع الواحد, ومدى الفصاحة التي اشتمل عليها القرآن الكريم .
وهذا الموضوع هو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم .
تعريف الالتفات:
الالتفات لغة:
الالتفات من الفعل (لفت) وهو بمعنى اللّيّ وصرف الشيء عن جهته, يقول صاحب لسان العرب: لفت وجهه عن القوم: صرفه, وتلفت إلى الشيء والتفت إليه: صرف وجهه إليه، واللفت ليّ الشيء عن جهته[1](1).
الالتفات عند البلاغيين:
هو الانتقال بالأسلوب من صيغة التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى صيغة أخرى من هذه الصيغ, بشرط أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى الملتفت عنه, بمعنى أن يعود الضمير الثاني على نفس الشيء الذي عاد إليه الضمير الأول, فمثلاً قولك:
(أكرم محمداً وأرفق به) ليس من الالتفات؛ فالضمير الأول في (أكرم) للمخاطب أي:
أنت, والضمير الثاني للغائب, ففيه انتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب, ومع ذلك لا يسمى التفاتاً؛ لأن الضميرين ليسا لشخص واحد, فالأول للمخاطب والثاني لمحمد[2](2).
أقسامه:
ينقسم الالتفات إلى أقسام هي:
1- الالتفات من التكلم إلى الخطاب, كقوله تعالى: ﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[يس: 22], والأصل: وإليه أرجع, فالتفت من التكلم إلى الخطاب.
2- الالتفات من التكلم إلى الغيبة, كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[ الكوثر: 1-2], حيث لم يقل: فصل لنا.
3- الالتفات من الخطاب إلى التكلم, كقوله تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾[ يونس: 21], على أنه سبحانه نزل نفسه منزلة المخاطب, فالضمير في (قل) للمخاطب, وفي (رسلنا) للمتكلم .
4- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة, كقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَاب﴾[الزخرف:70-71], فانتقل من الخطاب إلى الغيبة, ولم يقل: يطاف عليكم.
5- الالتفات من الغيبة إلى التكلم, كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً﴾[ فصلت: 12], فانتقل من الغيبة إلى التكلم, ولم يقل: وزين.
6- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب, كقوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء﴾[ الإنسان: 21-22], ولم يقل: كان لهم[3](3).
أغراضه وفوائده:
إن كثيراً من علماء البلاغة يرون أن للالتفات غرضاً رئيسياً واحداً وهو: رفع السآمة من الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب, فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة, ومن المتكلم إلى الخطاب أو الغيبة.
فيحسن الانتقال من بعضها إلى بعض؛ لأن الكلام المتوالي على ضمير واحد لا يستطاب[4](4).
ولعل هذا الغرض هو من أهم الأغراض؛ لأن النفوس تستريح ويتجدد نشاطها إذا انتقل السياق من حال إلى حال وتغير لون الكلام, لكن من الخطأ حصر الالتفات في هذا الغرض فقط, لأن المتتبع للالتفات وخصوصاً في القرآن الكريم يجد له أغراضاً أخرى كثيرة
ومتعددة, مما يجعل الالتفات موضوعاً بالغ الأهمية في علم البلاغة.
وممن تنبه لهذا الأمر واستنبط أغراضاً أخرى للالتفات ابن جني في كتابهSadالمحتسب), ففي تعليقه على قراءة الحسن لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه﴾[ البقرة: 281].
بياء مضمومة(يُرجعون)يقول: "إنه ترك الخطاب إلى الغيبة, كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾[ يونس : 22], وكأنه-والله أعلم- إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة, فقال: ﴿يُرْجَعُونَ﴾ بالياء؛ رفقاً من الله سبحانه بصالحي عباده المطيعين لأمره ...
فصار كأنه قال: (اتقوا أنتم يا مطيعون يوماً يُعذب فيه العاصون), فالسر البلاغي في هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ترفق الله بالمؤمنين بدلاً من صريح مخاطبتهم في مجال الوعيد والإنذار"[5](5).
ويقول الإمام النسفي عن الالتفات عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]: "والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع وأحسنَ تطرية لنشاطه وأملأ لاستلذاذ إصغائه وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة والعلماء النحارير وقليل ما هم"[6](6).
وقد ذكر جماعة من علماء البلاغة و المفسرين أغراضاً أخرى كثيرة للالتفات, وسنحاول في الفقرة التالية أن نذكر بعض هذه الأغراض والفوائد؛ ليتجلى للقارئ مدى البلاغة التي اشتمل عليها القرآن الكريم واتساع المعاني فيه.
الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم:
جاء الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في مواضع كثيرة في القرآن الكريم, وقد تنوعت
أغراضه تنوعاً واسعاً, ومن هذه الأغراض البلاغية للالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم:
1- التهديد والتخويف:
جاء الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في مواطن كثيرة في كتاب الله لغرض التهديد
والتخويف, ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[التوبة: 3].
ومحل الالتفات هو في قوله تعالى: ﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾, ولو لم يلتفت لقال: (فإن يتوبوا), والغرض من هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو التهديد والتخويف[7](7), ومنهم من يجعل معنى الالتفات هنا الترغيب في التوبة[8](8), ولعل الالتفات في قوله﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أليق بمعنى الترغيب في التوبة, والالتفات الثاني في قوله﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ﴾ أليق بمعنى التهديد.
ومنه قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 55],والالتفات في قوله(فتمتعوا) من الغيبة إلى الخطاب, ولم يقل: فيتمتعوا, لأجل التهديد والوعيد[9](9).
2- التوبيخ والتقريع:
قد يجيء الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم وفي طياته التوبيخ والتقريع لبعض من يستحق ذلك, ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
قوله تبارك وتعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُون﴾[النحل:56], فالتفت في قوله تعالى: ﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ من الغيبة إلى الخطاب لكي يواجههم بالتوبيخ والتقريع[10](10).
ومنه قوله تعالى: ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾[الأعراف: 169], ومحل الالتفات هو في قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾, فانتقل من الغيبة إلى الخطاب ليكون أوقع في توجيه التوبيخ إليهم مواجهة[11](11).
ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾[مريم: 88-89], فعدل عن الغيبة في(قالوا) إلى الخطاب في (جئتم), لأن من يزعم اتخاذ الرحمن ولداً لا شك أنه مفتون في دينه, ويستنكر منه هذا القول الآثم, وينبغي أن يوبخ عليه, وتوبيخ الحاضر أشد نكاية دائماً من توبيخ الغائب, وهذا سر الالتفات في هذه الآية الكريمة[12](12).
3- التشديد على طلب الشيء:
من المعاني للالتفات من الغيبة إلى الخطاب التشديد في طلب أمر من الأمور, ومن الأمثلة على ذلك: قوله تبارك وتعالى: ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾[الأحزاب: 55], ومحل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾, ولم يقل: ويتقين الله, وكأنه قيل واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب وما أنزل فيه الوحى من الاستتار واحتطن فيه, وفي السياق فضل تشديد في طلب التقوى منهن[13](13).
4- التخفيف من شدة الأمر:
وفي الانتقال من الغيبة إلى الخطاب تخفيف من شدة الأمر, كقوله تعالى: ﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 184].
وموضع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ ولم يقل: وأن يصوموا خير لهم, وفيه تخفيف من كلفة الصوم بلذة المخاطبة, يقول الآلوسي: "وأن تصوموا أي: أيها المطيقون المقيمون الأصحاء أو المطوقون من الشيوخ والعجائز أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين والمرضى والمسافرين وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبراً لكلفة الصوم بلذة المخاطبة [14](14).
5- العتاب:
من المعاني التي يحملها الالتفات من الغيبة إلى الخطاب العتاب, ومنه قوله تعالى:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾[التحريم:3-4], فانتقل السياق من الغيبة في الآية الأولى إلى الخطاب في بداية الآية الثانية فقال: (إن تتوبا), وفي هذا الالتفات بالخطاب معنى العتاب[15](15).
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾[عبس:1-3], وفي الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله﴿ وَمَا يُدْرِيكَ﴾ معنى العتاب.
6- التسجيل والمبالغة في إقامة الحجة:
ومن الأمثلة على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُون* أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ* وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ﴾[الأعراف:
190-193], ونلاحظ أن السياق انتقل من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى﴾؛ لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة[16](16).
7- التخويف والتذكير:
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾[المؤمنون: 14-15], فانتقال السياق من الغيبة إلى الخطاب في قوله:﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾لأن التخويف والتذكير بالموت إنما يناسبه الخطاب[17](17).
8- التشريف:
ويأتي الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشريف والرفع من شأن المخاطب, كقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[النور: 62], فتوجه السياق من الغيبة إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ تشريفاً له بهذا الخطاب[18](18).
ومنه قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة: 111], فنلاحظ تحول السياق من الغيبة إلى خطاب المؤمنين في قوله﴿ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ﴾لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم[19](19).
ومن تشريف الله لعباده المؤمنين قوله تعالى:﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَاب* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾[ص: 52-53], والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾ لتشريف المتقين بهذا الخطاب[20](20).
9- الامتنان:
ومن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب لغرض الامتنان قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾[السجدة: 9], والالتفات إلى الخطاب في قوله﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ﴾, والغرض هو الامتنان[21](21).
ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾[النور: 9-10], وجاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب؛ للعناية بشأن مقام الامتنان والفضل من الله تعالى عليهم بتشريع هذه الأحكام[22](22).
10- الاختصاص والاستحقاق:
وقد يأتي الانتقال من الغيبة على الخطاب للدلالة على الاختصاص والاستحقاق كقوله تعالى: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 4-5], و تقديم الضمير(إياك)مع هذا الانتقال إلى الخطاب يدل على المبالغة في الاستحقاق والاختصاص[23](23).
11- المبالغة في الحث:
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين﴾[الأعراف: 145], والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين﴾, والغرض هو المبالغة في الحث على الأخذ[24](24).
12- التأكيد على الشيء:
ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً *وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾[مريم: 70-71], والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾, والغرض منه التأكيد[25](25).
13- التعجب والاستبعاد:
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[القلم: 34-36], والالتفات في قوله تعالى: ﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾, والغرض منه التعجب والاستبعاد[26](26).
خاتمة:
من خلال ما سبق رأينا تعدد معاني الالتفات من الغيبة إلى الخطاب, ويستطيع الباحث أن يستنبط معانٍ أخرى كثيرة لهذا النوع من الالتفات, وفي هذا دليل واضح على قوة الفصاحة واتساع المعاني البلاغية التي اشتمل عليها القرآن الكريم, وهذا بحق دليل واضح على إعجاز هذا الكتاب, وأنه منزل من عند الله تعالى.
إعداد/ عادل الصعدي
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
المصدر: موقع إسلاميات
[27](1) - لسان العرب 12/ 301 .
[28](2) - فن البلاغة لعبد القادر حسين , ص 280
[29](3) - فن البلاغة لعبد القادر حسين نقلاً عن كنز البلاغة لابن الأثير .
[30](4) - منهاج البلغاء وسراج الأدباء 348, والبرهان في علوم القرآن 3/314, والتبيان في علم البيان: 174 .
[31](5) - المحتسب لابن جني 1/ 145 .
[32](6) - تفسير النسفي 1/7.
[33](7) - فتح القدير للشوكاني2/484, مراقي الصعود لأبي السعود4/42, روح المعاني للآلوسي 10/48
[34](8) - تفسير إطفيش لأطفيش – إباضي - 3/393
[35](9) - فتح القدير للشوكاني3/242.
[36](10) - فتح القدير للشوكاني 3/242.
[37](11) - انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 1/1668.
[38](12)- فن البلاغة للدكتور عبدالقادر حسين, ص284.
[39](13) - الكشاف للزمخشري 1/1007, وتفسير النسفي 3/314, وروح المعاني للآلوسي22/75.
[40](14) - تفسير الآلوسي2/59.
[41](15) - المرجع السابق 28/152.
[42](16) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/1693.
[43](17) - المرجع السابق 1/2822.
[44](18) - المرجع السابق 1/2940.
[45](19) - تفسير اللباب لابن عادل 8/379.
[46](20) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/3639.
[47](21) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/3298.
[48](22) - الوسيط لسيد طنطاوي 1/3053
[49](23) - الكشاف 1/7, وتفسير أبي السعود 1/16.
[50](24) - تفسير الآلوسي 9/60.
[51](25) - تفسير إطفيش، 6/20.
[52](26) - هيمان الزاد(14/265).
[1](1) - لسان العرب 12/ 301 .
[2](2) - فن البلاغة لعبد القادر حسين , ص 280
[3](3) - فن البلاغة لعبد القادر حسين نقلاً عن كنز البلاغة لابن الأثير .
[4](4) - منهاج البلغاء وسراج الأدباء 348, والبرهان في علوم القرآن 3/314, والتبيان في علم البيان: 174 .
[5](5) - المحتسب لابن جني 1/ 145 .
[6](6) - تفسير النسفي 1/7.
[7](7) - فتح القدير للشوكاني2/484, مراقي الصعود لأبي السعود4/42, روح المعاني للآلوسي 10/48
[8](8) - تفسير إطفيش لأطفيش – إباضي - 3/393
[9](9) - فتح القدير للشوكاني3/242.
[10](10) - فتح القدير للشوكاني 3/242.
[11](11) - انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 1/1668.
[12](12)- فن البلاغة للدكتور عبدالقادر حسين, ص284.
[13](13) - الكشاف للزمخشري 1/1007, وتفسير النسفي 3/314, وروح المعاني للآلوسي22/75.
[14](14) - تفسير الآلوسي2/59.
[15](15) - المرجع السابق 28/152.
[16](16) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/1693.
[17](17) - المرجع السابق 1/2822.
[18](18) - المرجع السابق 1/2940.
[19](19) - تفسير اللباب لابن عادل 8/379.
[20](20) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/3639.
[21](21) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/3298.
[22](22) - الوسيط لسيد طنطاوي 1/3053
[23](23) - الكشاف 1/7, وتفسير أبي السعود 1/16.
[24](24) - تفسير الآلوسي 9/60.
[25](25) - تفسير إطفيش، 6/20.
[26](26) - هيمان الزاد(14/265).
المصدر: موقع إسلاميات